فصل: مسألة يكون له الداران على فيريد رفع غرفة على جداري داريه:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة يكون له الداران على فيريد رفع غرفة على جداري داريه:

قال سحنون في الذي يكون له الداران عن يمين الطريق ويساره، فيريد أن يرفع على السكة غرفة، أو يتخذ عليها مجلسا على جداري داريه، فقال: ذلك له، وهذا ما لا يمنع منه أحد أن يتخذه، إنما يمنع من الإضرار في التضييق في السكة إذا أدخل عليها ما أضر بها أو يضيقها، فأما ما لا ضرر فيه على السكة، ولا على أحد من المسلمين فلا يمنع.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إن ذلك له، ولا يمنع منه؛ إذ لا ضرر في ذلك على الطريق، ولا على المارين فيه إذا رفع البناء رفعا يتجاوز رءوس المارة فيه من الركبان، ونحو هذا في الزاهي لابن شعبان، قال: والأجنحة الشارعة ترفع عن رءوس الركبان رفعا بينا، وإذا اختلف البانيان المتقابلان في الفحص فيما يجعل للطريق أو تشاحا، فأراد كل واحد منهما أن يقرب جداره من جدار صاحبه جعلا الطريق سبع أذرع بالذراع المعروفة بذراع البنيان، فإن شاكل واحد منهما فيما يبني ميزابا على الطريق للمطر لم يمنع، وبالله التوفيق.

.مسألة الذين يعتقون على الرجل إذا ملكهم هم أهل الفرائض في كتاب الله:

قال سحنون: الذين يعتقون على الرجل إذا ملكهم هم أهل الفرائض في كتاب الله هم: ولده، وولد ولده من قبل الرجال والنساء، والدراية يلزمه في ولده، وولد ولده، والتغليظ يلزمه في ولده وولد ولده من الرجال والنساء، ولا ينعقد نكاحه في كل ملك هو لهم، وينعقد نكاحهم في ملك هو له، ولا يكون لهم دراية في ماله، ولا يلزمهم تغليظ فيما فعلوا، وحالهم في هذا حال الأجنبي، ولا تجوز شهادته لمن ذكرت من ولده وولد ولده من قبل الرجال والنساء ولا شهادتهم له، وكذلك إذا كان قاضيا، ووقف موقف الشهادة.
قال محمد بن رشد: قوله الذين يعتقون على الرجل إذا ملكهم هم أهل الفرائض في كتاب الله: ولده وولد ولده من قبل الرجال والنساء، كلام غير محصل ولا صحيح؛ لأن قوله الذين: يعتقون عليه إذا ملكهم ولده وولد ولده من قبل الرجال والنساء يقتضي أنه لا يعتق عليه سواهم، ولا اختلاف عند الجميع في أنه يعتق عليه أبواه، ولا في مذهب مالك في أنه يعتق عليه جميع إخوته، فهو كلام خرج على غير تحصيل.
وقوله في ولده وولد ولده من قبل الرجال والنساء: إنهم أهل الفرائض في كتاب الله تعالى غير صحيح؛ لأن أولاد البنات لا يرثون عند الجميع؛ فليسوا من أهل الفرائض في كتاب الله، وقد وقع هذا اللفظ في المدونة؛ أعني قوله: وهم أهل الفرائض في كتاب الله، إلا أنه ذكره فيها بعد أن ذكر الإخوة فيصح قوله فيها، وهم أهل الفرائض في كتاب الله تعالى بإعادته إلى الآخر أقرب المذكرين إليه دون من سواهم ممن ذكر معهم ممن لا يرث، فكلام سحنون هذا، إنما يصح بإسقاط الذين، وإسقاط هم أهل الفرائض في كتاب الله، ويكون الوجه فيه على ما وقع أنه قاله بعد أن ذكر الآباء والأجداد والإخوة وهم أهل الفرائض، فأراد أن الذين يعتقون على الرجل سوى هؤلاء المذكورين ولده وولد ولده من الرجال والنساء.
وقوله: إنه يعتق عليه ولده وولد ولده من قبل الرجال والنساء، هو ظاهر ما في المدونة، ونص ما في سماع أشهب، من كتاب العتق، وكذلك يعتق عليه أجداده وجداته كلهم من قبل الأم، ومن قبل الأب على ما في المدونة والواضحة وغيرهما، وما في سماع أبي زيد من كتاب الولاء أنه يعتق عليه الجدات الأربع، وقوله: والدراية يلزمه في ولده وولد ولده، معناه أنه يدرأ عنه الحد إن وطئ أمة واحد منهم بالشبهة؛ لقوله عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أنت ومالك لأبيك»، وقوله: والتغليظ يلزمه في ولده وولد ولده من الرجال والنساء؛ يريد أنه يغلظ عليه الدية في جنايته عليهم عمدا، قيل في ماله، وقيل على العاقلة، ويدرأ عنه القصاص إلا أن يعمد إلى ذلك، مثل أن يضجعه فيذبحه، أو يأخذ منه سكينا فيقطع يده، وما أشبه ذلك، وهو مذهب ابن الماجشون.
ووقف ابن القاسم في الجد للأم، ورآه أشهب كالأجنبي في وجوب القصاص منه، فعلى قياس قوله: لا يعتق عليه، وينعقد نكاحه في ملكه، والله أعلم.

.مسألة القاضي يثبت عنده الحق للرجل فيريد أن يسجل له كتابا بما ثبت عنده:

قال سحنون في القاضي يثبت عنده الحق للرجل، فيريد أن يسجل له كتابا بما ثبت عنده بمحضر خروج الإمام غازيا، فيأمر القاضي بأن لا ينظر لأحد إلى انصرافه، فيكون من رأى القاضي الإشهاد والتسجيل لصاحب الحق، فيفعل بعد تقدم الإمام إليه، أذلك له جائز؟ أم لا ترى حكمه ماضيا؟ قال: نعم، أراه لازما ماضيا.
قال القاضي رَحِمَهُ اللَّهُ: هذا بين على ما قال؛ لأنه لم يعزله، وإنما نهاه عن الحكم، والتسجيل ليس بحكم، فله أن يسجل بما قد تقدم حكمه قبل أن يأمره بالتوقف عن الحكم، وفي الواضحة أن الإمام إذا أمر القاضي أن يدع الحكم في أمر قد شرع فيه عنده، فله أن يدع ذلك إن لم يتبين له حق أحدهما، وإن تبين له حق أحدهما، فلا يدع ذلك إلا أن يعزل، وهو قول سحنون، هذا وبالله التوفيق.

.مسألة القاضي يأتيه رجلان بكتاب مكتوب مختوم فيه شهادتهما:

وسألته عن القاضي يأتيه رجلان بكتاب مكتوب مختوم فيه شهادتهما، فيجد في داخله أن فلان ابن فلان أوصى إلى هذين الرجلين الذين أتياه بالكتاب بما كان له من مال أو غير ذلك، أترى للقاضي أن يجيز شهادتهما، ويقرهما على الوصية أم كيف الأمر فيه؟ قال سحنون: أرى أن يقول لهما القاضي أتقبلان الوصية؟ فإن قالا: نعم، لم تقبل شهادتهما، وإن قالا: لا، نقبلها، أمضى شهادتهما في الوصية، ووكل القاضي عليهما من رآه أهلا.
قال محمد بن رشد: قول سحنون هذا صحيح بين على قياس القول بأنه لا تجوز شهادة الرجل أن الميت أوصى إليه بالنظر في تنفيذ وصيته، وهو المنصوص عليه في المدونة. قال فيها: لا تجوز شهادة الموصى إليه، وإن كان طالب المال غيره. وقال فيها أيضا: إن شهادة الشاهدين لا تجوز بأن الميت أوصى لابنه، وإذا لم تجز شهادتهما بأنه أوصى لابنه فشهادتهما بأنه أوصى إليه أحرى ألا تجوز، وقد قيل: إن شهادتهما بذلك جائزة، وهو دليل قوله في المدونة في الذي شهد أن الميت أوصى لقوم بوصايا، وأوصى للشاهد. قال ابن القاسم: فسمعت مالكا يقول: إن كان الذي شهد به لنفسه تافها يسيرا لا يتهم عليه، فشهادته جائزة، فأجاز شهادته إن كان الذي شهد به لنفسه يسيرا مع أنه أوصى إليه، فعلى هذا تجوز شهادتهما في الوصية قبلاها أو لم يقبلاها، فإن قبلاها نظرا فيها، وإن لم يقبلاها وكل القاضي عليها من رآه أهلا لها، والله الموفق لا رب غيره، تم الكتاب الثاني من الأقضية، بحمد الله.

.كتاب السلطان:

.مسألة ليس للرجل أن يبيع في السوق الذي يجلب إليه الطعام بدون بيع الناس:

من سماع ابن القاسم من مالك من كتاب الرطب باليابس قال سحنون: أخبرني ابن القاسم قال: سمعت مالكا، قال: لا أرى للرجل أن يبيع في السوق الذي يجلب إليه الطعام أن يبيع بدون بيع الناس، قال سحنون: يريد ما يباع من صنف سلعته في جودتها مما قد جرى سعره، وقام على شيء، وليس الرديء من هذا في شيء أن يبيع الجيد بسعر الرديء، ليس ذلك عليه، ولكن ذلك بمثله.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه لا يجوز للرجل أن يبيع الطعام في السوق بدون بيع الناس، معناه بدون بيع الناس في المثمون لا في الثمن، وذلك مثل أن يكون الناس يبيعون مثل ذلك الطعام أربعة بدرهم، فلا يجوز له هو أن يبيع ثلاثة بدرهم، وقد بين ذلك في رسم باع شاة، من سماع ابن القاسم، وهو بين أيضا من تفسير سحنون. قوله يريد ما يباع من صنف سلعته في جودتها، وليس عليه أن يبيع الجيد بسعر الرديء، يقول: إنه إذا كان الناس يبيعون أربعة بدرهم، وكان طعامه هو أجود من طعامهم، فليس عليه أن يبيع طعامه الجيد بما يبيعون به طعامهم الرديء، وكذلك قال ابن حبيب: إنما ذلك إذا استوى الطعام أو تقارب، وأما إن اختلف فزاد صاحب الجيد على صاحب الرديء الدرهم والدرهمين في المدي، فلا يمنع من ذلك، وتحديده الدرهم والدرهمين في المدي فيما بين الجيد والرديء إنما هو على ما يعرف بالأندلس من أنه ليس بين قمحها من الاختلاف مثل ما بإفريقية، ولا مثل ما بمكة حيث يجتمع والمحمولة قاله الفضل وهو صحيح، وإذا كان الرديء كان الاختلاف بزيادة اليسير الواحد والاثنين والثلاثة ونحو ذلك، أقر الأكثر على ما يبيعون، فيضم الأقل إليهم حتى يكونوا كثيرا، فإن كانوا كثيرا قيل للباقين وإن كانوا أكثر منهم: إما أن تبيعوا كما يبيع هؤلاء، وإما أن ترفعوا من السوق، فلا يرد الكثير إلى القليل، ويرد إلى الكثير القليل، والكثير إذا كان الكل قليلا، فالأقل منهم تبع للأكثر إذا كان الأكثر يبيعون أرخص، وإن كان الأكثر هم الذين يبيعون أغلى، ترك كل واحد منهم على ما يبيع، وقد ذهب بعض الناس تأويلا على رواية ابن القاسم هذه، وما كان مثلها أن الواحد والاثنين من أهل السوق ليس لهم أن يبيعوا بأرخص مما يبيع أهل السوق؛ لأنه ضرر بهم. وممن ذهب إلى ذلك أبو محمد عبد الوهاب بن نصر البغدادي، وهو غلط ظاهر؛ إذ لا يلام أحد على المسامحة في البيع، والحطيطة فيه، بل يشكر على ذلك إن فعله لوجوه الناس، ويؤجر فيه إذا فعله لوجه الله، وبالله التوفيق.

.مسألة حلف ليجلدن امرأته خمسين سوطا:

وسئل مالك عمن حلف ليجلدن امرأته خمسين سوطا، قال: لو استشارني السلطان لأمرته أن يمنعه من ضربها، ولأمرته أن يطلقها، ولا آمره أن يجلدها أجعلها به.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أن يمينه كانت بطلاق امرأته ليجلدنها خمسين سوطا، فألزمه الطلاق الذي حلف به، ولم يمكنه من البر بضربها خمسين سوطا، وكذلك حكى ابن حبيب في الواضحة أن من حلف بطلاق امرأته ليضربنها أكثر من عشرة أسواط مثل الثلاثين أو نحوها أن السلطان يطلقها عليه إذا كان ذلك لغير شيء تستوجبه، وإن لم يرفع ذلك إليه حتى فعل بر، وعوقب بالزجر والسجن، ولم تطلق عليه إلا أن يكون بها من الضرر آثار كثيرة مشتهر بمثلها من الحرائر، فتطلق عليه للضرر إذا تبين ذلك وتفاحش، ولو حلف بطلاقها ليضربنها العشرة الأسواط ونحوها يريد ويصدق في أنها قد صنعت ما تستوجب به ذلك الأدب، لا أنه يكون له ذلك دون سبب، وكذلك من حلف بحرية عبد ليضربنه ضربا يسيرا دون شيء أذنبه، لم يمكن من ذلك، وقد قال ابن أبي زيد: إنه يمكن من ذلك، وهو بعيد، فلا يصح أن يقال ذلك في الحرة، والله أعلم.
وقول: أجعلها به معناه، أجعل به الطلاق الذي حلف به وألزمه إياه، وكذلك لو كانت يمينه بطلاق امرأة له أخرى، أو بعتق عبده أو ما أشبه ذلك، مما يقضى به عليه، لجعل السلطان ذلك به وحنثه، ولم يمكنه من البر بضرب خمسين سوطا، إلا أن يثبت عليها أنها فعلت ما تستوجب به ذلك، ولو كانت يمينه على ذلك بالله، أو بصيام، أو بمشي، أو صدقة، أو ما أشبه ذلك، مما لا يقضى به عليه إذا حنث فأبت المرأة من المقام معه، مخافة أن يضربها ليسقط عن نفسه بضربها ما حلف به من الصيام أو المشي أو الصدقة أو الكفارة؛ لوجب أن يكون ذلك لها من أجل أنه لا يؤمن على غيبها، وأن يطلقها عليه السلطان طلقة بائنة كالخلع، وقد وقع في بعض الكتب ولأمرته أن يطلقها، ولا آمره أن يجلدها أخلعها به، وهو يتأول على هذا؛ إذ لم يذكر في المسألة يمينه ما هي، وبالله التوفيق.

.مسألة ليس للرجل أن يعطي الحجام شعر رأسه:

قال: وسمعته قال: أكره أن يعطي الرجل الحجام شعر رأسه؛ لأنهم يجعلون منه القصص.
قال محمد بن رشد: يريد أنهم يصنعون منها القصص المنهي عنها في حديث معاوية؛ «إذ خطب الناس بالمدينة، فتناول قصة من شعر كانت بيد حرسي فقال: يا أهل المدينة، أين علماؤكم؟ سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينهى عن مثل هذه، وقال: إنما هلكت بنو إسرائيل حين اتخذ هذه نساؤهم»، وهي تشبه الجمة تضعها المرأة التي لا شعر لها على رأسها، ترى أنه شعرها، وقد لعن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الواصلة والمستوصلة»، وهذا من ذلك المعنى، فإذا كان الحجام يأخذ منه الشعر ليصنع ذلك منه، فلا ينبغي أن يترك ذلك له، كما قال مالك؛ لأنه فعل ما نهى النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ عن فعله، وذلك ما لا يحل ولا يجوز، قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2].

.مسألة البدوي يقدم فيسأل الحاضر عن السعر هل يخبره:

ومن كتاب أوله حلف ألا يبيع رجلا سلعة سماها:
وسئل عن البدوي يقدم فيسأل الحاضر عن السعر أترى أن يخبره؟ قال: يكره ذلك، قيل: أفترى أن يشري له؟ قال: لا بأس بذلك، إنما يكره أن يبيع له، فأما الاشتراء له فلا بأس.
قال محمد بن رشد: لم يختلف أهل العلم جميعهم في أن المعنى عن نهي النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ عن أن يبيع حاضر لباد، إنما هو إرادة نفع أهل الحاضرة ليصيبوا من أهل البادية بجهلهم بالأسعار، وقد جاء هذا مفسرا في بعض الآثار أنه قال: «لا يبع حاضر لباد، دعوا الناس، يرزق الله بعضهم من بعض». فإذا كان المعنى في أنه لا يجوز أن يبيع الحاضر للبادي، إنما هو ليصيب أهل الحاضرة غرة أهل البادية لجهلهم بالأسواق، وجب أن لا يجوز أن يخبروا بالأسعار لما في ذلك من الضرر بأهل الحاضرة في قطع المرفق الذي جعله رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهم في الإصابة منهم؛ لأنهم إذا لم يعلموا السعر لعلهم أن يرضوا بالبيع بأقل من القيمة، وهذا ما لا اختلاف فيه أعلمه في مذهب مالك، وذهب الأوزاعي إلى أنه لا بأس أن يخبره بالسعر، وإن لم يجز أن يبيع له، وأما أبو حنيفة وأصحابه فذهبوا إلى إجازة بيع الحاضر للبادي، وقالوا: قد عارض النهي عن ذلك قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الدين النصيحة لكل مسلم» وهذا لا يلزم؛ لأن الخاص يقضي على العام، فقول النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لا يبع حاضر لباد» يخصص عموم قوله: «الدين النصيحة»، ويبينه ولا يعارضه، وأجاز مالك رَحِمَهُ اللَّهُ أن يشتري له؛ لأن النهي إنما ورد في البيع له، فلم يقس عليه الشراء، ومنع من ذلك ابن الماجشون قياسا على البيع، وإياه اختار ابن حبيب قال: لأن العرب تقول بعت في معنى اشتريت.
قال طرفة:
ويأتيك بالأنباء من لم تبع له لتاتا يعني من لم تشتر له زادا.
وقال الحطيئة:
وبعت لذبيان العلاء بمالك يقول اشتريت الشرف لقومك بمالك، قال مع أنه قد روي أيضا: «لا يشتر حاضر لباد»، وقول مالك أولى؛ لأن الصحيح في الحديث «لا يبع حاضر لباد»، والسنة إذا عارضها أصل وجب أن تستعمل في موضعها، ولا يقاس عليها. واختلف قول مالك في أهل البادية الذين لا يجوز للحضري أن يبيع لهم على ثلاثة أقوال؛ أحدها: أنهم أهل العمود خاصة دون أهل القرى المسكونة التي لا يفارقها أهلها، وهي رواية أبي قرة موسى بن طارق عنه. والثاني: أنهم أهل العمود، وأهل القرى دون أهل المدن. والثالث: أنه لا يجوز للحاضر أن يبيع للجالب، وإن كان من أهل المدن والحواضر، فرأى على هذا القول أن المعنى في النهي إنما هو على أن يبيع الحاضر للباد؛ ولأن قوله: «لا يبع حاضر لباد»، إنما خرج على الأعم في أن أهل البادية هم الذين يجلبون إلى الحاضرة، وهذان القولان في رسم تأخير صلاة العشاء بعد هذا، واختلف أيضا في حكم بيع الحاضر للبادي إذا وقع، وسيأتي القول فيه في رسم يوصي، من سماع عيسى إن شاء الله، وبالله التوفيق.

.مسألة رجل فجر في السوق بغش الميزان:

قال مالك: سألني صاحب السوق عن رجل فجر في السوق، يريد جعل في مكياله زفتا، فأمر به أن يخرجه منه ولا يتركه فيه، وذلك أشد عليه من الضرب.
قال محمد بن رشد: قوله: وذلك أشد عليه من الضرب، يريد أن ذلك أردع لهم؛ لأن أهل الفجور والغش قلما ينكلهم الضرب، وظاهر قوله: أنه يخرج من السوق أدبا له، وإن لم يكن معتادا للغش، خلاف ما حكى ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون: أن من غش في أسواق المسلمين يعاقب بالسجن والضرب وبالإخراج من السوق إن كان معتادا للغش، ولا يرجع إلى السوق حتى تظهر توبته وتعرف. وقول ابن حبيب: إن المعتاد للغش، يريد الذي قد أدب عليه، فلم يردعه الأدب عنه، وعاد إليه يخرج من السوق، ولا يرجع إليه حتى تظهر توبته وتعرف، صحيح إذ لم يخرج من السوق أدبا له، وإنما أخرج لقطع ضرره عن الناس؛ إذ قد أدب فلم ينفع فيه الأدب، وأما إذا أخرج عنه أدبا له من غير أن يكون معتادا للغش على ظاهر قول مالك هذا، فلا يمتنع أن يرد إليه بعد مدة يرجى أن يكون قد تأدب بها، وإن لم تظهر منه توبة.
قال بعض أهل النظر: وإنما يؤدب الغاش بالإخراج من السوق إذا كان لا يمكن أن يرجع إليه دون أن يعرف، وأما إذا كان يمكن أن يرجع إليه، ولا يعرف ذلك لاتساع السوق؛ فإنه يؤدب بالضرب، والأصل في إخراج المعتاد بالغش عن السوق ما جاء من أن عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كتب إلى أمير الأجناد ألا يتركوا النصارى بأعمالهم في أسواق المسلمين جزارين ولا صرافيين؛ لأنه يخشى من المعتاد للغش أن يغش المسلمين بما ظهر من استباحته له، كما يخشى من النصراني أن يربي مع المسلمين بما يعلم من استحلاله له، وقد قال سحنون قياسا على قول عمر بن الخطاب: إنه يمنع من السوق من لا يبصر البيع من المسلمين حياطة له وللمسلمين، فالذي يغش المسلمين، وقد اعتاد ذلك، وأدب عليه، فلم يردعه الأدب أحق بذلك وأولى، وبالله التوفيق.

.مسألة نهي الناس عن التزوج على الشروط والاكتفاء بالدين والأمانة:

قال مالك: أشرت على قاض منذ دهر أن ينهى الناس أن يتزوجوا على الشروط، وألا يتزوجوا إلا على دين الرجل وأمانته، وأنه كان كتب بذلك كتابا، وصيح به في الأسواق وعابها عيبا شديدا.
قال محمد بن رشد: يريد الشروط اللازمة بيمين كطلاق الداخلة، وعتق السرية، وما أشبه ذلك، فهذه الشروط هي التي يكرهها مالك، فإذا وقع النكاح عليها مضى، ولم يفسخ قبل الدخول ولا بعده، ولزم الشرط. ووجه الكراهة في ذلك أن المرأة قد حطت من صداقها بسبب الشروط، ولا يدرى هل يفعل ذلك الزوج أم لا؟ فأشبه ذلك الصداق الفاسد، وقد روي عن سحنون لهذه العلة أنه نكاح فاسد يفسخ قبل الدخول، ويثبت بعده، ويكون فيه الصداق المسمى، وللخروج من هذا الاختلاف يعقد الناس هذه الشروط في صدقاتهم على الطوع، وذلك إذا وقع الشرط في أصل النكاح على تسمية الصداق، وأما إذا أنكحها نكاح تفويض على الشرط، فلا اختلاف في أن النكاح لا يفسخ.
وأما الشروط التي ليست مقيدة بيمين، فهي كلها غير لازمة، ومنها ما لا يفسد به النكاح، ومنها ما يفسد به فيفسخ قبل وبعد، ومنها ما يفسد به فيفسخ قبل ولا يفسخ بعد، ومنها ما يختلف في فساد النكاح بها، ومنها ما يختلف في الفسخ فيه، هل يكون قبل وبعد، أو إنما يفسخ قبل ويقر بعد، وليس هذا موضع ذكرها؛ إذ قد مضت في مواضعها من كتاب النكاح، ومن الشروط المقيدة بتمليك ما يختلف في فساد النكاح بها اختلافا كثيرا، وهي التي تتزوج على أنه إن لم يأت بصداقها إلى أجل كذا وكذا فأمرها بيدها، أو على إن رأت منه ما تكره فأمرها بيدها، وقد مضى القول على ذلك في سماع ابن القاسم، من كتاب النكاح في أول رسم منه، وفي رسم المحرم يتخذ الخرقة لفرجه، فلا معنى لذكر شيء من ذلك هنا، وبالله التوفيق.

.مسألة التبن يجعل تحت القمح عندما يخزن:

وسئل عن التبن يجعل تحت القمح عندما يخزن، فقال: لا بأس بذلك، وليس هذا مثل الذي يغشون به، وقد أخبرت أن أصحاب السفن يعملون ذلك عندما يحملون، ولم أر بذلك بأسا.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إنه لا بأس به؛ لأنه إنما يفعل للإصلاح، لا للغش والفساد، ومثله ما في سماع أشهب بعد هذا من طرح الماء في اللبن لاستخراج زبده، ومن طرح الماء في العصير ليتعجل به تحليله، ومضى مثله أيضا من قول مالك في رسم إن خرجت، من سماع عيسى، من كتاب جامع البيوع، وبالله التوفيق.

.مسألة صاحب السوق يريد أن يسعر على الناس السوق:

وسئل مالك عن صاحب السوق يريد أن يسعر على الناس السوق، فيقول لهم: إما بعتم بكذا وكذا، بسعر يسميه لهم، وإما قمتم، قال: لا خير في هذا. قيل له: إنه يأتي الرجل يكون طعامه ليس بالجيد، وقد بدل سعرا فيقول لغيره: إما بعتم مثله، وإما رفعتم، قال: لا خير في ذلك، ولكن لو أن رجلا أراد بذلك فساد السوق، فحط عن سعر الناس لرأيت أن يقال له: إما لحقت بسعر الناس وإلا رفعت، فأما أن يقول للناس كلهم، فليس ذلك بالصواب، وذكر حديث عمر بن عبد العزيز في أهل أيلة حين حط سعرهم لمنع البحر، أن كتب في ذلك أن خل بينهم وبين ذلك، فإنما السعر بيد الله.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إنه لا بأس به، أما الجلاب فلا اختلاف في أنه لا يسعر عليهم شيء مما جلبوه للبيع، وإنما يقال لمن شذ منهم، فحط من السعر، أو باع بأغلى مما يبيع به عامتهم: إما أن تبيع بما يبيع به العامة، وإما أن ترفع من السوق، كما فعل عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بحاطب بن أبي بلتعة، إذ مر به وهو يبيع زبيبا له في السوق، فقال له: إما أن تزيد في السعر، وإما أن ترفع من سوقنا؛ لأنه كان يبيع بالدرهم أقل مما كان يبيع به أهل السوق، وأما أهل الحوانيت والأسواق الذين يشترون من الجلاب وغيرهم جملا، ويبيعون ذلك على أيديهم مقطعا مثل اللحم والأدم والفواكه، فقيل: إنهم كالجلاب لا يسعر عليهم شيء من بياعتهم، وإنما يقال لمن شذ منهم وخرج عن الجمهور: إما أن تبيع كما يبع الناس، وإما أن ترفع من السوق، وهو قول مالك في هذه الرواية، في رسم باع شاة، من سماع عيسى.
وممن روي ذلك عنه من السلف عبد الله بن عمر، وقيل: إنهم في هذا بخلاف الجلاب، لا يتركون على البيع باختيارهم إذا غلوا على الناس ولم يقنعوا من الربح بما يشبه، كان على صاحب السوق الموكل على مصلحته أن يعرف بما يشترون، فيجعل لهم من الربح ما يشبه، وينهاهم أن يزيدوا على ذلك، ويتفقد السوق أبدا، فيمنعهم من الزيادة على الربح الذي جعل لهم كيف ما تقلب السعر من زيادة أو نقصان، فمن خالف أمره عاقبه بما يراه من الأدب، وبالإخراج من السوق إن كان معتادا لذلك مستسرا به، وهو قول مالك في رسم البيوع الأول، من سماع أشهب، وإليه ذهب ابن حبيب، وقاله من السلف جماعة منهم: سعيد بن المسيب، ويحيى بن سعيد، وهو مذهب الليث، وربيعة بن أبي عبد الرحمن، ولا يجوز عند أحد من العلماء أن يقول لهم: لا تبيعوا إلا بكذا وكذا، ربحتم أو خسرتم من غير أن ينظر إلى ما يشترون به، ولا أن يقول لهم فيما قد اشتروه لا تبيعوه إلا بكذا وكذا مما هو مثل الثمن الذي اشتروه به أو أقل، وإذا ضرب لهم الربح على قدر ما يشترون به، مثل أن يقول لهم: تربحون في المدي كذا وكذا، فلا يتركهم أن يغلوا في الشراء، وإن لم يزيدوا في الربح؛ إذ قد يفعلون ذلك، ويتساهلون فيه؛ إذ لا ينتقصهم بذلك من ربحهم شيئا، وإذا علم ذلك منهم ضرب لهم الربح على ما يعلم من مبلغ السعر، وقال لهم: لا سبيل لكم أن تبيعوا إلا بكذا وكذا، فلا تشتروا إلا على هذا، وهو قول مالك في رسم البيوع الأول، من سماع أشهب: ليس بأيديكم شيء تعتلون به، اشتروا على ثلث رطل يسعره عليكم من الضأن، وعلى نصف رطل يسعره عليكم من الإبل؛ لأن ذلك إنما يجوز له أن يفعله إذا علم أنهم يتساهلون في الشراء، ويزيدون على القيمة، ويقولون له: لا حجة لك علينا؛ إذ لا نربح أكثر مما سميت لنا، فهذا تأويل الرواية، والله أعلم.

.مسألة خمر تعمل من القز ثم يبل لها الخبز فيرش عليها لتشتد وتصفق:

وسئل عن خمر تعمل من القز، ثم يبل لها الخبز، فيرش عليها لتشتد وتصفق. قال: لا خير في هذا، هذا غش ولا يعجبني.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله، إن ذلك من الغش؛ لأن المشتري يظن أن شدتها إنما هو من ذاتها وصفاقة نسجها، فإن علم المشتري أنها مرشوشة بماء الخبز، وأن ذلك يشدها ويصفقها لم يكن له كلام، وإن لم يعلم أنها مرشوشة بذلك كان بالخيار بين أن يمسك أو يرد، فإن فاتت ردت إلى القيمة إن كانت القيمة أقل من الثمن، وكذلك إن علم أنها مرشوشة بذلك، ولم يعلم أن ذلك يشدها ويصفقها.
وسيأتي في رسم البيوع الأول، من سماع أشهب نحو هذا، وهذا على ما قاله ابن حبيب من أن ما يصنعه حاكة الديباج من تصميغها غش؛ لأنه وإن كان التصميغ لا يخفى على المشتري، فقد يخفى عليه قدر ما أحدث فيه من الشدة والتصفيق، وقد قال في الفراء يترب وجوه الفراء ليحسنها، ويغيب ما فيها من العيوب أن المشتري إن علم بتتريبها، فليس له ردها إلا أن يجد بها عيبا. وقاله ابن القاسم في رسم الجواب، من سماع عيسى، من كتاب العيوب؛ لأنه رأى تأثير التتريب غير خاف على من علم التتريب، بخلاف التصميغ، والله أعلم، ومما يشبه هذا ما قاله ابن حبيب أن من الغش ما يفعل النعال من تغليظهم حواشيها قبل أن تحذا ليواروا بذلك رقتها، ويزيدوا في تحسينها. قال: وعلى الإمام العادل تأديب من فعله، وللمشتري أن يرد ما اشترى منها قبل حذوها وبعد حذوها، والله الموفق.